أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

العزلة المنزلية والفرصة السانحة

بقلم الشيخ باقر بري

لم تترك لنا الثقافة الرأسمالية الجشعة في هذه البلاد أوقات فراغ نستطيع استغلالها. فناهيك عن ضغوط الحياة اليومية ومتطلّباتها الكثيرة، قد لا يجد العامل في أميركا أحياناً مجالاً للتنفُّس من خلال أخذ إجازة طويلة للاسترخاء ومراجعة الحسابات والاستراحة من العمل.
ولا يقتصر الأمر على جشع الرأسمالية التي تملك حساسيةً خاصَّةً ضدّ الإجازات، باعتبارها وقتاً ضائعاً غير إنتاجي، بل إنَّ الآخرين سينظرون بحسدٍ إلى صاحب الإجازة الطويلة ويتهمونه بالكسل والترف!
وإذا قارنَّا أوقات العطل والإجازات التي نأخذها هنا بمثيلاتها في الدول الأوروبية مثلاً، فسنجد أن أخذ العطل والإجازات في المجتمع الأوروبي أمر عادي جداً. فالأوروبيون يأخذون عطلةً سنويةً لا تقلُّ عن أربعة أسابيع، ومعظمهم يأخذونها دفعةً واحدةً.
أما هنا في أميركا فلا يسعُ العامل الحصولَ على عطلةٍ مريحةٍ كهذه دفعةً واحدةً كل عام، وإذا حصل عليها، فسوف يختلسها اختلاساً، معرّضاً نفسه وعائلته على إثرها إلى شتَّى الضغوط المادية، وأحياناً المعنوية.
فنحن في أميركا أشبه ما نكون بالمقيّدين بالسلاسل إلى طاحونة أعمالنا، وحين نريد الاستمتاع بعطلةٍ طويلةٍ لا يسمح لنا ربُّ العمل بها، وإذا سمح بها لا يغطي نفقاتها، لتلاحقنا بعد ذلك الدفعات والديون ومطرقة الوقت، حتى لو كنَّا من أصحاب الأعمال المستقلّة.
وليس سراً أننا كبشرٍ نُستهلَك في أميركا الصناعية تماماً كما تُستهلَك الماكنات والآلات. ومثلما تُشغَّل الآلة بأقصى طاقتها إلى أن تُصاب بالتآكل والتلف وتتحوَّل إلى خردةٍ مصيرها إعادة التدوير، يُشغَّل الإنسان بكلّ طاقته إلى أن يضعف ويشيخ وتتقاسم المستشفيات السنوات المتبقية في عمره.
 
تبديد الوقت بدلاً من استثماره:
مع ذلك، وحين يُتاح لأحدنا وقتٌ فائض آخر الأسبوع، فإنه يهدر كامله بالثرثرة ولعب الورق، وتعاطي الأرجيلة، والجلوس في المقاهي والنوادي، ومشاهدة المسلسلات وبرامج التسلية السطحية على التلفزيون و"نتفلكس" و"يوتيوب" بدلاً من اختيار البرامج الثقافية المفيدة. وطبعاً الحال ليس بأفضل على وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تُستخدم للدردشة والمجاملات وتزجية الوقت بدل الاستفادة منها عبر متابعة الصفحات التثقيفية النافعة لبناء الشخصية المتوازنة.
ساعات طويلة وغالية ننفقها من الوقت الأصلي، فضلاً عن الوقت الفائض، في متابعة أخبار هذا المغني وتلك الممثلة، والانتقال من هذا (الكروب شات) إلى ذاك، ومشاهدة فيديوهات مسلية، وبعضها مُخزٍ جداً لا يجدر بنا تداوله أصلاً. ويذهب وقت الفراغ هباء دون أن نستفيد منه. 
السعيد فينا من يغتنم وقته في الرياضة للحفاظ على صحته، فيمشي ويركض، أو يركب الدراجة، ويسبح في فصل الصيف.
والسعيد فينا من يقدر على مجالسة عائلته، وزيارة أقربائه، وتفقُّد مرضاه وأصدقائه.
والسعيد فينا من يُنمّي نفسه روحياً ودينياً، ويشارك اجتماعياً وسياسياً، مقدّماً الجهد والمال لخدمة الناس، وممارساً دوره في التوعية، ومنمّياً قدارته ومواهبه الذاتية عبر منحها الوقت الكافي للقراءة والثقافة والتربية الروحيّة.
بهذا المعنى، يكون وقت الفراغ غنيمةً وفرصةً لا تُفوَّت، لأنه يمهّد للمرحلة القادمة، وبحسب تعبير الإمام علي -عليه السلام- في تقسيمه للوقت وتوزيع الساعات، حيث يقول عن ساعة الفراغ: "وساعة لملذاتكم في غير محرّم، وفي هذه الساعة تقدرون على تلك الساعات". أي أن ساعة الفراغ المملوءة بالنافع المفيد والترويحي غير الضار، تُـموّننا بطاقةٍ إضافية لقطع مسافة أطول، تماماً كما يُعبّئ صاحب السيارة المسافر خزّان الوقود تحسّباً للطريق.
 
أمّة إقرأ!
غالباً ما ننتقد أنفسنا ونقول إنَّ أول ما نزل من القرآن على النبي العربي (ص) قوله تعالى (إقرأ). فنحن أمَّة (إقرأ) التي لا تقرأ! والقراءة الحقيقية ليست مجرد تصفُّح الكتب واستعراض محتوياتها، فكثير من الناس يفعلون ذلك، ولا نسمّيهم قرّاءً بالمفهوم القرآني للقراءة. فالقارئ الحقّ هو القارئ الذي يعي ويفهم ما يقرأ، ويتدبَّر في ما يقرأ، فيفكّر فيه ويوظّف قراءاته ومعرفته الجديدة  في بناء ذاته ومهاراته، وفي صناعة مجتمعه وإنهاضه، وفي نفع هذا المجتمع الذي يعيش فيه. يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير: "سُئلت عمَّن سيقود الجنس البشري؟ فأجبتُ: الذين يعرفون كيف يقرؤون".
فنحن نقرأ لا لإبراز العضلات الثقافيّة، ولا لزيادة الشحم  الثقافي الذي  يسبّب السمنة، والسمنة الثقافية كالسمنة البدنية تضرّ الإنسان ولا تنفعه! بل نقرأ (للتغير والبناء) و(العمل والتنمية) و(الإرشاد والاصلاح) و(التنوير والتطوير)...
يقول المناضل الأميركي مالكوم اكس: "لقد غيَّرت القراءةُ مجرى حياتي تغييراً جذرياً ولم أكن أهدف من ورائها إلى كسب أي شهادات لتحسين مركزي، وإنما كنت أريد أن أحيا فكرياً".
هكذا القراءة الحقة التي تسقي شجر أفكارنا، فتُحييها وتجعلها أكثر خصوبةً، وتقرّبنا أكثر فأكثر من ذواتنا وممن حولنا وتفهمنا الحياة. وهذا النمط من القراءة يكون عن اختيار واعٍ، وهذا يعني أنني أختار من الكتب ما ينفعني وأحتاج إلى أن أتعلَّمه في الحياة ويصلح أحوالي وأحوال مجتمعي  ويُغنيني ويؤنسني، لا الكتاب الذي لا يضيف الى رصيد معرفتي وتجربتي شيئاً.
أختار من الكتب ما يشحذ مهاراتي و ما يساعدني على معرفة أمور ديني ودنياي، أختار من الكتب ما يفتح عقلي ويوسّعه، ويجيب عن الأسئلة التي تدور في ذهني ولا أجد لها أجوبة شافية إلا في (خير الأصحاب) وهو الكتاب!
وليس من صاحبٍ نتخذه في هذه المرحلة أفضل من القراءة.
 
العلْم كمطلب إلهي:
هذه الأيام التي نقضيها في بيوتنا التزاماً بالإجراءات الصحيّة المشدّدة في ظل العزل الاجتماعي قد تجعلنا نكتئب، وقد تجعلنا نشعر بأن أعمالنا ورواتبنا وموارد عيشنا على المحك، لكن لا ينبغي أن نسمح لعقولنا وأوهامنا أن تجرّنا إلى القلق والتوتر والخوف من المجهول، بل لا بدَّ أن نحترس من التفكير السلبي ونكافحه باستغلال الفرصة والعمل على تحويلها إلى ثروة فكرية وعملية بالقراءة والاطّلاع لتنمية المهارات، فقد يعطينا هذا الأمر أفكاراً ومهاراتٍ جديدةً تمثل تغييراً كبيراً لنا في حياتنا.
وبالطبع هناك من يتذمَّر من هذه الفترة الآن، إما لأنه اعتاد على العمل والعودة إلى بيته متعباً بحيث لم يكن يعرف وقتَ فراغٍ، وإما لأنه اعتاد على السهر بعد العمل  خارج البيت وقضاء الوقت مع الأصدقاء للتسلية والترفيه.
ولكن من وجهة نظر عمليّة اغتناميّة إيجابيّة، يجب أن ننظر إلى هذه المرحلة باعتبارها فرصتنا أيضاً: في أن نقرأ ونتعلّم ونتثقّف لنبني علاقة طيّبة مع الكتاب وصحبة نافعة وقويّة مع الفكر الأصيل، وأن نتسلَّح بالمعرفة والفهم، ومراجعة الكُتب والصحف والأبحاث والخطب التعليمية المنشورة ورقياً أو الكترونياً، وأن نستزيد معرفةً واطلاعاً على علوم الإسلام وعقائده، ومفاهيم القرآن الكريم وموازينه المعرفية. فلا ينبغي للإنسان أن يترك الوقت يمرّ في الجهل والغفلة ويكون جلّ همّه التسلية، بل يبنغي أن يعمل على رفع مستواه الفكري ويترك مجالاً للثقافة والمعرفة كما شاء له رب العالمين، حيث يدعونا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى التزوُّد من زاد العلم والمعرفة: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114). فأن يزداد الإنسان علماً هو مطلب إلهيّ في القرآن الكريم، وهذه فرصة تلبيته قد سنحت اليوم.

Script executed in 0.029729127883911