تشكل الحكاية الشعبية، مدماكاً أساسياً في الهوية الثقافية والنفسية والمجتمعية لكل أمة من أمم الأرض، فتحمل بين ثنايا أسرارها ورموزها إشارة ووثيقة أصلية عن تاريخ الشعب وقيمه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده. أما بالنسبة الى المسألة الفلسطينية، فيرتبط هذا الأمر بمسألة الصراع الوجودي مع العدو اليهودي ارتباطاً مباشراً، لأن الهوية الفلسطينية بمكوناتها العلمية من تاريخ اجتماعي وشخصية ثقافية ومدى جغرافي وآثار حجرية، هي دائرة الاستهداف الأولى التي تتوجه سهام العدو نحوها، فالاستيلاء عليها أو تزويرها يعني تلقائياً خسارة معركة الأرض والوجود.. وبالتالي خسارة الحق القومي.
وهنا نموذج في واحدة من الحكايا الشعبية التي تختزنها ذاكرة الشعب الفلسطيني، وما زالت جداتنا المهجرات من بلداتهن المنكوبة، يروينها على مسامعنا بعفوية، بقصد تسليتنا أو حثنا على النعاس، من دون أن يدركن الدور العظيم الذي يؤدينه عبر ذلك، لجهة الحفاظ على هذا التراث ونشره.
--------------------------------------------------
في البدء تجدر الإشارة إلى أن عناة هو إسم إحدى آلهات الكنعانيين وهم الشعب الأصلي لفلسطين، آلهة الخصب، والتجدد والولادة، أما ظريف الطول فهو اسم كان يطلق على شاب لأنه كان جميل الطول، والظرف من الاستحسان والتجميل والزريف من الزرافة وهو تشبيه بعنق الزرافة الطويل .
كما أن «يا ظريف الطّول» هي من أجمل اللّوحات التُّراثية الغنائية في فلسطين، وارتبطت بالدبْكِة الفلسطينية بشكل أساسي.
وظريف الطّول صفة شائعة في الأغنية الفلسطينية، وهي تتطَرّق إلى العِشق والجَمال، ووصف المَحبوب الوسيم والمَمْشوق القوام.
ولظريف الطّول قصة وحكاية من حكايات التراث الفلسطيني الشّعبي، وهي قصة حدثت بالفعل، وأضحت تروى على مسامع الشابات والشبان من قبل جداتهم أو أمهاتهم، وهي من أكثر الحكايا شيوعاً في تراث الحكايا الشعبي الفلسطيني.
يحكى، في إحدى القرى الشمالية من فلسطين، أنه كانت تسكن هناك فتاة اسمها على اسم الإلهة عناة. أحبت عناة ظريف الطول وهو أحبها حباً قوياً، حتى أنهما لم يمنحا للفراق فرصة للحلول بينهم، وكانا يلتقيان عند نبع ماء بالخفاء .
وعندما علم أهالي القرية بهذا التقارب بين عناة وظريف الطول، بدأت المشاكل والحروب لتفرقة عناة عن ظريف الطول. فقام أهل عناة بسجنها داخل المنزل يحرسها إخوانها وأولاد عمومتها حتى لا تستطيع التسلل لرؤية ظريف الطول .
وحدث ذلك، نتيجة للتقاليد السائدة في تلك الحقبة، أي تفضيل الزواج من ذوي القربة، أي أولاد العم وما شابه.
ونتيجة لذلك، حزن ظريف الطول حزناً شديداً وكره البقاء في قريته، حيث منع من لقاء حبيبته الموجودة في ذات القرية.
ويحكى أن عناة جربت كل الوسائل الممكنة للقائه، ولكن دون جدوى، فتدهورت حالتتها الصحية كثيراً، وأصيبت بمرض شبيه بالـ«الحمى»، ولفها حزن عميق، خصوصاً عندما علمت أن ظريف الطول ينوي الرحيل من القرية، بعد أن أخبرتها صديقتها بذلك.
رسالة مبطنة
فحمّلت عناة كلمات إلى صديقتها، تختلط بين دموعها وعرق جبينها المحموم، وطلبت إليها أن تلقيها على ظريف الطول:
يا ظريف الطول وقف توا اقولك ......رايح عالغربة بلادك أحسنلك
خايف يا المحبوب اتروح وتتملك ......وتعاشر الغير وتنساني أنا
جن جنون ظريف الطول عندما سمع هذا الكلام من حبيبته، فحزم أمتعته ورحل، وبعد أن كان الرحيل خياراً صعباً ووحيداً، أضيفت إليه مشاعر الغضب واللوم، وأرسل لعناة لوماً لأنها فكرت بهذه الطريقة.
وأرسل لها: «كيف بدي انساكي بعد كل هذا الحب وهذه المعاناة، ومرارة الفراق، كيف إجالك قلبك تشكي فيي!. أنا راحل حتى ترتاحي إنت، ويطلق أهلك سراحك، من بعد ما يتأكدوا إني رحلت.
أنا رح اضحي بحياتي كرمالك، وأنا ما هجرتك لأتملك أراضي في بلد غير بلدنا (قريتنا)، أنا هون جابتني أمي وهون كبرت وهون حبيتك على محبة أرضي، أنت والأرض وجه واحد بالنسبة إلي، أنا ما ممكن أحب غيرك، لأني ما ممكن أخون أرضي».
ترك هذا الكلام حالة من الأسى عند عناة وصديقتها، وكل من عرف به من أهالي القرية، ثم رحل ظريف الطول عن قريته حزيناً مهموماً وبدأ بالتنقل من قرية إلى قرية ومن بلد إلى بلد، من دون أن يتقبل فكرة شراء أرض أو بيت، انطلاقاً من عهده لعناة، فعاش بعيداً عن أرضه وحبيبته، تفادياً من الوقوع في خيانة أي منهما.
الحب والنكبة
ومن بعد انتشار هذه الحكاية بين القرى القلسطينية، انتشرت أغنية يا ظريف الطول في فلسطين كلها، وأضحت من أشهر الأهازيج التي تصف المحبوب، وكذلك الوطن، تأكيداً على ثنائية الحب والوطن في النفسية الفلسطينية.
يا زريف الطول ويلاّ يا شعّارْ نحيي هالليلة ونخلّيها نهارْ
ترى دمع العين بالغربة انهارْ والقلب مشتاق لكلّ حبابِنا
وبعد نكبة الشّتات الفلسطيني أصبحت أهازيج ظريف الطّول للتغَنِّي بالوطن والأرض والشوق لها، والتمني بالعودة من المنافي إلى أحضان الوطن.
وطُبِعَ عليها طابع الحزن والألم والشوق والكثير الكثير من الحسرات كحال شعبنا
نذكر منها بعض الأبيات:
يا زريف الطول وين رايح تروح ** وبقلب بلادنا تعمّقت الجروح
ما في غيرنا يبَرِّد لَها الرُّوح ** واسمع ليل نهار صوت رصاصنا
يا زريف الطّول امشي التّل التّل ** واسأل عنّا الرِّيح يا ظريف تِنْدَل
الطَّريق معروف والرَّصاص الحَل ** وبْعِزِّة واصرار نِصْنَع دَربِنا
يا زريف الطّول من وادي لَواد ** تناديني الثُّوار وشوقي للبلاد
ابشر يا ظريف سراج الثّورة انقاد**ويا سراج الثُّوار سيفك دَمِّنا
وعيون الثّوّار والله ما بتنام ** كرّ ولا فَرار هذا شْعارِنا