إلى وقت قريب، كانت الجماعة الإسلامية تحاول الضغط على حليفها الرئيسي تيار المستقبل في الانتخابات النيابية للحصول على مقعد نيابي. وكان تيار المستقبل يضع الشروط أمام الجماعة، طارحاً السؤال الأشد قسوة أمام مسؤوليها ومسرّبا إياه عبر الإعلام: «وكم يبلغ حجم الجماعة ووزنها حتى تطالب بثلاثة نواب؟». هذا الزمن قد انتهى، وهذه الأسئلة أصبحت خارج السياق اليوم. ومع الثورات العربية، وتربّع الإخوان في طليعتها، أصبح دور الجماعة وموقعها أكبر من حجمها البشري، وربما أكبر ممّا يمكنها هي نفسها بكوادرها ومؤسساتها استيعابه، إلا أنها حتماً لم تعد لاعباً صغيراً في الإطار المحلي اللبناني، بل أصبحت علاقاتها ومواقفها تتقاطع مع الإخوان، من تركيا إلى ليبيا، وحتماً سوريا.
مجالسة أي كادر من كوادر الجماعة في لبنان ستعطي الانطباع نفسه: الجماعة تعيش حالة صعود غير مسبوقة. ولن يتأخر من تحادثه عن ترداد كلمة «نشوة» مرة ومرتين خلال حوار لا يتجاوز أربعين دقيقة، وإذا امتد الحوار فستتكرر الكلمة مرة أخرى أيضاً.
النشوة نتيجة الوضع في المنطقة العربية، ونتيجة صعود نجم الإخوان للمرة الأولى في تاريخهم عبر القيام (أو في الحد الأدنى المشاركة) بثورات غيّرت تاريخ البلاد، والوصول إلى السلطة، مشاركةً، لأن الإخوان ليس في برنامجهم اليوم التربّع مباشرة في صدر صورة الحكم. النشوة من مجيء الجمهور إليهم، بعد طول قمع وطول مطاردة، مع ما يرافقهما من نبذ وابتعاد وتخلٍّ من الجمهور عن الحركة المطارَدة. نشوة لأن الزمن يلتفت بوجهه إلى الإخوان، وإلى الجماعة.
تعيش اليوم الجماعة الإسلامية حالة الدعم الكامل لـ«الثورة السورية». في البداية، كان في الجماعة من يقول إن ما يحصل من تجاوزات النظام إنما يحصل بغير رضى الرئيس السوري بشار الأسد. ورغم ذلك صدر موقف يدين القمع في بداية الأزمة. ولا يوافق أعضاء قيادة الجماعة على القول إن الموقف في بداية «الثورة» كان ملتبساً، بل كان هناك رؤية لإمكان قيام تسوية على أساس تراجع النظام، وليس المنتفضين. اليوم لم يعد هذا النقاش مطروحاً، فلا فرق إن كان الرئيس السوري راضياً أو غير راض، فالفأس قد وقع في الرأس، «ولا مفر من استكمال الثورة إلى النهاية».
يتلخص دور الجماعة في «دعم الثورة عبر المساعدات الإنسانية، والدعم السياسي، والدعاية الإعلامية. أما ما عدا ذلك فلا شأن للجماعة به. فلا نقل سلاح ولا مقاتلين، ولا عبور للحدود، ولا تهريب بأي شكل من الأشكال»، بحسب ما يؤكد قياديون في الجماعة. ويخبرك هؤلاء عن مجيء العديد من الشبان السوريين واللبنانيين إلى مراكز انتشار الجماعة في بيروت والمناطق، مطالبين بمساعدتهم «للوصول إلى سوريا للجهاد، أو تدريبهم على حمل السلاح».
الجواب الذي تقدمه الجماعة الإسلامية دائماً للراغبين في حمل السلاح والجهاد هو نفسه: دورنا ينحصر في أعمال الإغاثة والدعم الإعلامي والسياسي. ويشير القياديون إلى تيقّنهم من أن بعض هؤلاء الشبان إنما هم موفدون من أجهزة أمنية سورية ولبنانية لمعرفة اتجاهات عمل الجماعة، ومدى تدخلها في أعمال الدعم العسكري للمعارضة السورية، مضيفين أن ألاطراف اللبنانية التي تدعم المعارضين السوريين عسكرياً معروفة ومعلومة لدى الجميع.
ولا يرغب أحد في قيادة الجماعة في تكرار تجربة العمل المسلح خلال الحرب الأهلية، خاصة في مرحلة تحرير صيدا (1985) حيث استوعبت الجماعة الكثير من المقاتلين، لتكتشف لاحقاً أنها ضمّت من بين من ضمّت الصالح والطالح، وأنها تحمّلت وزر العمل العسكري الميليشياوي، من دون أن تتمكن من أدلجة كل من التحق بها وإلزامه بفكرها الإسلامي. وهي اليوم لا تعتزم القيام بالخطأ نفسه مرة أخرى.
وعلى صعيد آخر، يتابع القياديون، ببراءة مصطنعة تقريباً، التقارير الإعلامية عن تطور دورهم داخلياً وأخذهم من حصة تيار المستقبل في الشارع السنّي، ومراكمة قدرات لم تكن لديهم من قبل، وحصولهم على تسهيلات مالية لمساعدة النازحين السوريين في لبنان، وخاصة وراثة تيار المستقبل وأداء دور القيادة للسنّة في لبنان، على غرار ما يحصل في مصر وليبيا وتونس وسوريا وتركيا طبعاً.
إلا أن القياديين في الجماعة يتحدثون عن واقع آخر. لا شك في أن الدور قد كبر، وأصبحت الجماعة صلة وصل مركزية في عقدة الاتصالات بين الإخوان في العالم، وبين الجاليات الإسلامية، ولها موقع ريادي في لبنان، وهي تعمل على إغاثة آلاف النازحين الذين يقدّر عددهم بحسب القياديين بما بين خمسة آلاف في مناطق الشمال وثلاثة آلاف آخرين في باقي المناطق، إلا أنها تعلم أن دورها لم يحن بعد لتسلّم الموقع الريادي في المعادلة الطائفية في لبنان.
وما زالت الجماعة تنظر إلى علاقتها بتيار المستقبل بحرص، وفي الوقت نفسه تحاول عدم الوصول إلى مرحلة العداء مع حزب الله، وهي تحافظ على علاقة باردة معه، وإن كان موقفه من الأحداث السورية قد أحدث بعداً شاسعاً بين الطرفين، إلا أن الجماعة تحذر الاقتراب من التوتر المذهبي السنّي ـــ الشيعي، الذي لا يبدو أنه على جدول أعمالها. وحين تسأل عن تطور دورها المستقبلي في الحياة السياسية اللبنانية وإمكان تبوّئها الريادة، دائماً يأتيك الجواب بأن الوقت لم يحن بعد، وما زال من المبكر الحديث في هذا الشأن. باختصار، ربما كانت هناك رغبة، ولكن لم تتوافر لها كل العوامل بعد.
الجماعة اليوم على صلة مباشرة بتركيا. وفود تذهب وتجيء. لا يرغب المعنيون في الحديث طويلاً عن الأمر، ولكن الصلة لم تنقطع أصلاً، وربما تطورت أخيراً. والعلاقة مع الإخوان في سوريا شبه يومية، حوارات ونقاشات ولقاءات، و«إخوان لبنان» علموا من الإخوان في سوريا قرارهم بالتحول إلى العمل المسلح قبل انعقاد الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الدولي بأسبوع، إذ قيل للجماعة الإسلامية عبر ممثلي قيادة الإخوان في سوريا إن «ضغط النظام السوري العسكري والأمني قد بات لا يحتمل، ولم يعد أمام الإخوان الا التحول إلى السلاح والدفاع عن النفس ومواجهة النظام السوري بالشدة، بعد أن كانت الثورة سلمية».
بغض النظر عن الدعاية المتبادلة بين الطرفين في سوريا، إلا أن قراراً من هذا المستوى لدى قيادة الإخوان، ومباشرة بعد انتهاء مهمة المراقبين العرب وتقديمهم تقريرهم لجامعة الدول العربية، قد يحمل دلالة ما في الصراع الدائر هناك، أكثر مغزى من الحملات الدعائية.
إذاً لم يعد الإخوان بحاجة إلى البندقية السلفية. أساساً الإخوان والسلفية الجهادية متنابذان في العديد من النقاط، ويبدي قياديّو الجماعة في لبنان استياءهم من «مزايدات السلفيين، فلم يكن هناك من داع للأذان في قاعة البرلمان في مصر، وهل يرضى السلفيون بأن يقيم المسيحيّون شعائرهم في البرلمانات بالمقابل؟»، وليس في وسع السلفيين أو أي طرف آخر المزايدة على موقف الإخوان من الاحتلال الإسرائيلي، وهنا يمكن مراجعة ما تقوله حماس، وما تعرفه قيادة حماس، والوساطات التي عمل عليها لأعوام الإخوان في العالم، والجماعة في لبنان، لفتح الأبواب العربية لدعم حماس واستقبالها، وهو ما أثمر أخيراً في الأردن وغير الأردن.
وفي لبنان أيضاً، للجماعة ما لها في الملف الفلسطيني، ولكنها اليوم تعتصم دعماً لأهلها في سوريا، ولا تمانع في تحول الاعتصام إلى تظاهرة صغيرة تقطع شوارع بيروت من مقر السفارة الروسية إلى مقر الجماعة في عائشة بكار، وإن كان الأمر بردّ فعل من شباب الجماعة، الذين ساءهم أن يصل المعتصمون المؤيّدون لموقف روسيا في مجلس الأمن إلى حدّ المجيء إلى ساحة الاعتصام بتظاهرة، فردّوا عليها بتظاهرة مقابلة.